فصل: فَصْــــل في أن الله يجمع بين الأمور المتماثلة

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: مجموع فتاوى ابن تيمية **


قال شيخ الإسلام أحمدُ بنُ تَيمية ـ طَيَّب اللَّه ثَرَاه ـ فيما صنفه بقلعة دمشق أخيرًا‏:‏

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد للّه، نستعينه ونستهديه ونستغفره، ونعوذ باللّه من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهد اللّه فهو المهتد، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا اللّه وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله،صلى اللّه عليه وعلى آله وسلم تسليمًا‏.‏

 فَصْــــل

في الفرقان بين الحق والباطل

وأن اللّه بين ذلك بكتابه ونبيه، فمن كان أعظم اتباعًا لكتابه الذي أنزله ونبيه الذي أرسله كان أعظم فرقانًا، ومن كان أبعد عن اتباع الكتاب والرسول كان أبعد عن الفرقان، واشتبه عليه الحق بالباطل، كالذين اشتبه عليهم عبادة الرحمن بعبادة الشيطان، والنبي الصادق بالمتنبئ الكاذب، وآيات النبيين بشبهات الكذابين، حتى اشتبه عليهم الخالق بالمخلوق‏.‏

فإن اللّه ـ سبحانه وتعالى ـ بعث محمدًا بالهدى ودين الحق؛ ليخرج الناس من الظلمات إلى النور، ففرق به بين الحق والباطل، والهدى والضلال، والرشاد والغي، والصدق والكذب، والعلم والجهل، والمعروف والمنكر، وطريق أولياء اللّه السعداء وأعداء اللّه الأشقياء؛وبين ما عليه الناس من الاختلاف، وكذلك النبيون قبله، قال اللّه تعالى‏:‏‏{‏كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ وَأَنزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُواْ فِيهِ وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلاَّ الَّذِينَ أُوتُوهُ مِن بَعْدِ مَا جَاءتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ فَهَدَى اللّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ لِمَا اخْتَلَفُواْ فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ وَاللّهُ يَهْدِي مَن يَشَاء إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏213‏]‏، وقال تعالى‏:‏ ‏{‏تَاللّهِ لَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى أُمَمٍ مِّن قَبْلِكَ فَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَهُوَ وَلِيُّهُمُ الْيَوْمَ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ وَمَا أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ إِلاَّ لِتُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي اخْتَلَفُواْ فِيهِ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ‏}‏ ‏[‏ النحل‏:‏ 63، 64‏]‏، وقال سبحانه وتعالى‏:‏ ‏{‏تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا‏}‏ ‏[‏الفرقان‏:‏1‏]‏،وقال تعالى‏:‏ ‏{‏الم اللّهُ لا إِلَـهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَأَنزَلَ التَّوْرَاةَ وَالإِنجِيلَ مِن قَبْلُ هُدًى لِّلنَّاسِ وَأَنزَلَ الْفُرْقَانَ‏}‏‏[‏آل عمران‏:‏1ـ 4‏]‏‏.‏

قال جماهير المفسرين‏:‏ هو القرآن‏.‏ روى ابن أبي حاتم بإسناده عن الربيع بن أنس قال‏:‏ هو الفرقان فرق بين الحق والباطل‏.‏ قال‏:‏ وروى عن عطاء ومجاهد ومِقْسَم وقتادة ومقاتل بن حَيَّان نحو ذلك، وروى بإسناده عن شيبان، عن قتادة في قوله‏:‏ ‏{‏وَأَنزَلَ الْفُرْقَانَ‏}‏ قال‏:‏ هو القرآن الذي أنزله اللّه على محمد، ففرق به بين الحق والباطل، وبين فيه دينه وشرع فيه شرائعه، وأحل حلاله وحرم حرامه، وحد حدوده، وأمر بطاعته ونهى عن معصيته‏.‏ وعن عباد بن منصور‏:‏ سألت الحسن عن قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَأَنزَلَ الْفُرْقَانَ‏}‏ قال‏:‏ هو كتاب بحق‏.‏

و‏[‏الفرقان‏]‏ مصدر فرق فرقانًا مثل الرجحان، والكفران، والخسران، وكذلك ‏[‏القرآن‏]‏ هو في الأصل مصدر قرأ قرآنا، ومنه قوله‏:‏‏{‏إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ‏}‏ ‏[‏القيامة‏:‏17ـ 19‏]‏، ويسمى الكلام المقروء نفسه ‏[‏قرآنا‏]‏ ـ وهو كثير ـ كما في قوله‏:‏‏{‏فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ‏}‏ ‏[‏النحل‏:‏98‏]‏، كما أن الكلام هو اسم مصدر كلم تكليما، وتكلم تكلما، ويراد به الكلام نفسه؛ وذلك لأن الإنسان إذا تكلم كان كلامه بفعل منه وحركة هي مسمى المصدر، وحصل عن الحركة صوت يقطع حروفًا هو نفس التكلم، فالكلام والقول ونحو ذلك يتناول هذا وهذا؛ ولهذا كان الكلام تارة يجعل نوعًا من العمل إذا أريد به المصدر، وتارة يجعل قسيمًا له إذا أريد ما يتكلم به، وهو يتناول هذا وهذا‏.‏ وهذا مبسوط في غير هذا الموضع‏.‏

والمقصود هنا أن لفظ الفرقان‏]‏ إذا أريد به المصدر كان المراد أنه أنزل الفصل والفرق بين الحق والباطل، وهذا منزل في الكتاب؛ فإن في الكتاب الفصل، وإنزال الفرق هو إنزال الفارق، وإن أريد بالفرقان ما يفرق فهو الفارق أيضًا‏.‏ فهما في المعنى سواء، وإن أريد بالفرقان نفس المصدر فيكون إنزاله كإنزال الإيمان وإنزال العدل؛ فإنـه جعل في القلوب التفريق بين الحق والباطل بالقرآن، كما جعل فيها الإيمان والعدل، وهو ـ سبحانه وتعالى ـ أنزل الكتاب والميزان، والميزان قد فسر بالعدل، وفسر بأنه ما يوزن به ليعرف العدل، وهو كالفرقان يفسر بالفرق، ويفسر بما يحصل به الفرق، وهما متلازمان؛ فإذا أريد الفرق نفسه فهو نتيجة الكتاب وثمرته ومقتضاه، وإذا أريد الفارق فالكتاب نفسه هو الفارق، ويكون له اسمان،كل اسم يدل على صفة ليست هي الصفة الأخرى، سمي كتابًا باعتبار أنه مجموع مكتوب تحفظ حروفه ويقرأ ويكتب،وسمى فرقانا باعتبار أنه يفرق بين الحق والباطل كما تقدم، كما سمى هدى باعتبار أنه يهدي إلى الحق، وشفاء باعتبار أنه يشفي القلوب من مرض الشبهات والشهوات، ونحو ذلك من أسمائه‏.‏

وكذلك أسماء الرسول؛ كالمقفى، والماحي، والحاشر‏.‏ وكذلك أسماء اللّه الحسنى؛ كالرحمن، والرحيم، والملك، والحكيم، ونحو ذلك‏.‏

والعطف يكون لتغاير الأسماء والصفات، وإن كان المسمى واحدًا كقوله‏:‏ ‏{‏سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ لْأَعْلَى الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى‏}‏ ‏[‏الأعلى‏:‏1ـ3‏]‏، وقوله‏:‏ ‏{‏هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ‏}‏ ‏[‏الحديد‏:‏3‏]‏، ونحو ذلك‏.‏

وهنا ذكر أنه نزل الكتاب، فإنه نزله متفرقًا، وأنه أنزل التوراة والإنجيل، وذكر أنه أنزل الفرقان، وقد أنزل ـ سبحانه وتعالى ـ الإيمان في القلوب، وأنزل الميزان، والإيمان‏.‏ و‏[‏الميزان‏]‏ مما يحصل به الفرقان أيضًا، كما يحصل بالقرآن، وإذا أنزل القرآن حصل به الإيمان والفرقان، ونظير هذا قوله‏:‏‏{‏وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى وَهَارُونَ الْفُرْقَانَ وَضِيَاء وَذِكْرًا لِّلْمُتَّقِينَ‏}‏ ‏[‏الأنبياء‏:‏48‏]‏‏.‏ قيل‏:‏ الفرقان هو التوراة‏.‏ وقيل‏:‏ هو الحكم بنصره على فرعون، كما في قوله‏:‏‏{‏إِن كُنتُمْ آمَنتُمْ بِاللّهِ وَمَا أَنزَلْنَا عَلَى عَبْدِنَا يَوْمَ الْفُرْقَانِ‏}‏ ‏[‏الأنفال‏:‏41‏]‏‏.‏

وكذلك قوله‏:‏‏{‏قَدْ جَاءكُم مِّنَ اللّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُّبِينٌ‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏15‏]‏، قيل‏:‏ النور هو محمد عليه الصلاة والسلام، وقيل‏:‏ هو الإسلام‏.‏ وقوله‏:‏ ‏{‏قَدْ جَاءكُم بُرْهَانٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَأَنزَلْنَا إِلَيْكُمْ نُورًا مُّبِينًا‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏174‏]‏، قيل‏:‏ البرهان‏:‏ هو محمد‏.‏ وقيل‏:‏ هو الحجة والدليل‏.‏ وقيل‏:‏ القرآن والحجة والدليل تتناول الآيات التي بعث بها محمد صلى الله عليه وسلم، لكنه هناك جاء بلفظ ‏{‏آتَيْنَا‏}‏ و ‏{‏جَاءكُم‏}‏‏.‏ وهنا قال‏:‏ ‏{‏وَأَنزَلَ الْفُرْقَانَ‏}‏ جاء بلفظ الإنزال؛ فلهذا شاع بينهم أن القرآن والبرهان يحصل بالعلم والبيان كما حصل بالقرآن، ويحصل بالنظر والتمييز بين أهل الحق والباطل بأن ينجي هؤلاء وينصرهم ويعذب هؤلاء، فيكون قد فرق بين الطائفتين كما يفرق المفرق بين أولياء اللّه وأعدائه بالإحسان إلى هؤلاء وعقوبة هؤلاء‏.‏

وهذا كقوله في القرآن في قوله‏:‏ ‏{‏إِن كُنتُمْ آمَنتُمْ بِاللّهِ وَمَا أَنزَلْنَا عَلَى عَبْدِنَا يَوْمَ الْفُرْقَانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ وَاللّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ‏}‏ ‏[‏الأنفال‏:‏14‏]‏، قال الوالبي عن ابن عباس‏:‏ ‏{‏يَوْمَ الْفُرْقَانِ‏}‏‏:‏يوم بَدْر، فرق اللّه فيه بين الحق والباطل‏.‏

قال ابن أبي حاتم‏:‏ وروى عن مجاهد ومِقْسَم وعبيد اللّه بن عبد اللّه والضحاك وقتادة ومقاتل بن حيان نحو ذلك، وبذلك فسر أكثرهم‏{‏إَن تَتَّقُواْ اللّهَ يَجْعَل لَّكُمْ فُرْقَاناً‏}‏ ‏[‏الأنفال‏:‏29‏]‏، كما في قوله‏:‏ ‏{‏وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجًا‏}‏ ‏[‏الطلاق‏:‏2‏]‏، أي‏:‏ من كل ما ضاق على الناس، قال الوالبي عن ابن عباس في قوله‏:‏‏{‏إَن تَتَّقُواْ اللّهَ يَجْعَل لَّكُمْ فُرْقَاناً‏}‏ ‏[‏الأنفال‏:‏ 29‏]‏ أي‏:‏ مخرجا، قال ابن أبي حاتم‏:‏ وروى عن مجاهد وعكرمة والضحاك وقتادة والسدي ومقاتل بن حيان كذلك، غير أن مجاهدًا قال‏:‏ مخرجًا في الدنيا والآخرة‏.‏ وروى عن الضحاك عن ابن عباس قال‏:‏ نصرًا، قال‏:‏وفي آخر قول ابن عباس والسدي‏:‏ نجاة‏.‏

وعن عُرْوَة بن الزبير‏:‏ ‏{‏يَجْعَل لَّكُمْ فُرْقَاناً‏}‏ أي‏:‏فصلا بين الحق والباطل، يظهر اللّه به حقكم ويطفئ به باطل من خالفكم، وذكر البغوي عن مقاتل بن حيان قال‏:‏ مخرجًا في الدنيا من الشبهات، لكن قد يكون هذا تفسيرًا لمراد مقاتل بن حيان، كما ذكر أبو الفرج ابن الجوزي عن ابن عباس، ومجاهد وعكرمة، والضحاك وابن قتيبة أنهم قالوا‏:‏ هو المخرج‏.‏ ثم قال‏:‏ والمعنى‏:‏ يجعل لكم مخرجًا في الدنيا من الضلال، وليس مرادهم، وإنما مرادهم المخرج المذكور في قوله‏:‏ ‏{‏وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجًا‏}‏ ‏[‏الطلاق‏:‏2‏]‏، والفرقان المذكور في قوله‏:‏‏{‏وَمَا أَنزَلْنَا عَلَى عَبْدِنَا يَوْمَ الْفُرْقَانِ‏}‏ ‏[‏ الأنفال‏:‏ 14‏]‏‏.‏

وقد ذكر عن ابن زيد أنه قال‏:‏ هدى في قلوبهم يعرفون به الحق من الباطل، ونوعا الفرقان‏:‏ فرقان الهدى والبيان، والنصر والنجاة هما نوعا الظهور في قوله تعالى‏:‏‏{‏هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏33،الفتح‏:‏28، الصف‏:‏9‏]‏، يظهره بالبيان والحجة والبرهان، ويظهر باليد والعِزّ والسِّنَان ‏[‏أي‏:‏ القوة، انظر‏:‏ لسان العرب، مادة‏:‏ سنن‏]‏‏.‏

وكذلك ‏(‏السلطان‏)‏ في قوله‏:‏ ‏{‏وَاجْعَل لِّي مِن لَّدُنكَ سُلْطَانًا نَّصِيرًا‏}‏ ‏[‏الإسراء‏:‏80‏]‏، فهذا النوع وهو الحجة والعلم، كما في قوله‏:‏‏{‏أَمْ أَنزَلْنَا عَلَيْهِمْ سُلْطَانًا فَهُوَ يَتَكَلَّمُ بِمَا كَانُوا بِهِ يُشْرِكُونَ‏}‏ ‏[‏الروم‏:‏35‏]‏، وقوله‏:‏ ‏{‏إِنَّ الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ إِن فِي صُدُورِهِمْ إِلَّا كِبْرٌ‏}‏ ‏[‏غافر‏:‏56‏]‏، وقوله‏:‏ ‏{‏إِنْ هِيَ إِلَّا أَسْمَاء سَمَّيْتُمُوهَا أَنتُمْ وَآبَاؤُكُم مَّا أَنزَلَ اللَّهُ بِهَا مِن سُلْطَانٍ‏}‏ ‏[‏النجم‏:‏23‏]‏، وقد فسر ‏[‏السلطان‏]‏ بسلطان القدرة واليد، وفسر بالحجة والبيان‏.‏

فمن الفرقان‏:‏ما نَعَتَهُ اللَّه به في قوله‏:‏‏{‏فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَـاةَ وَالَّذِينَ هُم بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِندَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُم بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَآئِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالأَغْلاَلَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏156، 157‏]‏، ففرّق بين المعروف والمنكر،أمر بهذا ونهى عن هذا،وبين الطيب والخبيث،أحل هذا وحرم هذا‏.‏

ومن الفرقان‏:‏ أنه فرق بين أهل الحق المهتدين المؤمنين المصلحين،أهل الحسنات، وبين أهل الباطل الكفار الضالين المفسدين،أهل السيئات، قال تعالى‏:‏‏{‏أًمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أّن نَّجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاء مَّحْيَاهُم وَمَمَاتُهُمْ سَاء مَا يَحْكُمُونَ‏}‏ ‏[‏الجاثية‏:‏21‏]‏، وقال تعالى‏:‏ ‏{‏أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ‏}‏ٌ ‏[‏ص‏:‏28‏]‏، وقال تعالى‏:‏ ‏{‏أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ‏}‏ ‏[‏القلم‏:‏35، 36‏]‏، وقال تعالى‏:‏‏{‏مَثَلُ الْفَرِيقَيْنِ كَالأَعْمَى وَالأَصَمِّ وَالْبَصِيرِ وَالسَّمِيعِ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلاً أَفَلاَ تَذَكَّرُونَ‏}‏ ‏[‏هود‏:‏24‏]‏، وقال تعالى‏:‏‏{‏أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاء اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُوا الْأَلْبَابِ‏}‏ ‏[‏الزمر‏:‏9‏]‏، وقال تعالى‏:‏‏{‏وَمَا يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ وَلَا الظُّلُمَاتُ وَلَا النُّورُ وَلَا الظِّلُّ وَلَا الْحَرُورُ وَمَا يَسْتَوِي الْأَحْيَاء وَلَا الْأَمْوَاتُ إِنَّ اللَّهَ يُسْمِعُ مَن يَشَاء وَمَا أَنتَ بِمُسْمِعٍ مَّن فِي الْقُبُورِ إِنْ أَنتَ إِلَّا نَذِير إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ بِالْحَقِّ بَشِيرًا وَنَذِيرًا‏}‏ ‏[‏فاطر‏:‏19ـ24‏]‏، وقال تعالى‏:‏‏{‏أَوَ مَن كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي

النَّاسِ كَمَن مَّثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِّنْهَا‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏122‏]‏،وقال تعالى‏:‏ ‏{‏أَفَمَن كَانَ مُؤْمِنًا كَمَن كَانَ فَاسِقًا لَّا يَسْتَوُونَ‏}‏ ‏[‏السجدة‏:‏18‏]‏،فهو ـ سبحانه ـ بين الفرق بين أشخاص أهل الطاعة للّه والرسول، والمعصية للّه والرسول، كما بين الفرق بين ما أمر به وبين ما نهى عنه‏.‏

وأعظم من ذلك أنه بين الفرق بين الخالق والمخلوق، وأن المخلوق لا يجوز أن يسوى بين الخالق والمخلوق في شيء، فيجعل المخلوق نِدّا للخالق، قال تعالى‏:‏‏{‏وَمِنَ النَّاسِ مَن يَتَّخِذُ مِن دُونِ اللّهِ أَندَاداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللّهِ وَالَّذِينَ آمَنُواْ أَشَدُّ حُبًّا لِّلّهِ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏165‏]‏، وقال تعالى‏:‏‏{‏هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا‏}‏ ‏[‏مريم‏:‏65‏]‏، ‏{‏وَلَمْ يَكُن لَّهُ كُفُوًا أَحَدٌ‏}‏ ‏[‏الإخلاص‏:‏4‏]‏، ‏{‏لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ‏}‏ ‏[‏الشورى‏:‏11‏]‏، وضرب الأمثال في القرآن على من لم يفرق، بل عدل بربه وسوى بينه وبين خلقه، كما قالوا ـ وهم في النار يصطرخون فيها ـ‏:‏ ‏{‏تَاللَّهِ إِن كُنَّا لَفِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ إِذْ نُسَوِّيكُم بِرَبِّ الْعَالَمِينَ‏}‏ ‏[‏الشعراء‏:‏97، 98‏]‏، وقال تعالى‏:‏‏{‏أَفَمَن يَخْلُقُ كَمَن لاَّ يَخْلُقُ أَفَلا تَذَكَّرُونَ وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَةَ اللّهِ لاَ تُحْصُوهَا إِنَّ اللّهَ لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ وَاللّهُ يَعْلَمُ مَا تُسِرُّونَ وَمَا تُعْلِنُونَ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِ اللّهِ لاَ يَخْلُقُونَ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ أَمْواتٌ غَيْرُ أَحْيَاء وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ‏}‏ ‏[‏النحل‏:‏17ـ 21‏]‏‏.‏

فهو ـ سبحانه ـ الخالق العليم،الحق الحي الذي لا يموت،ومن سواه لا يخلق شيئًا، كما قال‏:‏‏{‏إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ لَن يَخْلُقُوا ذُبَابًا وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِن يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئًا لَّا يَسْتَنقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ مَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ‏}‏ ‏[‏الحج‏:‏73، 74‏]‏‏.‏

وهذا مثلٌ ضربه اللّه،فإن الذباب من أصغر الموجودات، وكل من يدعى من دون اللّه لا يخلقون ذبابًا ولو اجتمعوا له‏.‏ وإن يسلبهم الذباب شيئًا لا يستنقذوه منه‏.‏ فإذا تبين أنهم لا يخلقون ذبابًا، ولا يقدرون على انتزاع ما يسلبهم، فَهُمْ عن خلق غيره وعن مغالبته أعجز وأعجز‏.‏

و‏[‏المثل‏]‏ هو الأصل والنظير المشبه به، كما قال‏:‏ ‏{‏وَلَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلًا إِذَا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ‏}‏ ‏[‏الزخرف‏:‏57‏]‏، أي‏:‏ لما جعلوه نظيرًا قاسوا عليه آلهتهم، وقالوا‏:‏ إذا كان قد عُبِد وهو لا يعذب فكذلك آلهتنا، فضربوه مثلا لآلهتهم، وجعلوا يصدون، أي‏:‏ يضجون، ويعجبون منه احتجاجًا به على الرسول، والفرق بينه وبين آلهتهم ظاهر، كما بينه في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُم مِّنَّا الْحُسْنَى أُوْلَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ‏}‏ ‏[‏الأنبياء‏:‏101‏]‏، وقال في فرعون‏:‏ ‏{‏فَجَعَلْنَاهُمْ سَلَفًا وَمَثَلًا لِلْآخِرِينَ‏}‏ ‏[‏الزخرف‏:‏56‏]‏، أي‏:‏ مثلاً يعتبر به ويقاس عليه غيره، فمن عمل بمثل عمله جُوزِي بجزائه؛ ليتعظ الناس به فلا يعمل بمثل عمله‏.‏

وقال تعالى‏:‏ ‏{‏وَلَقَدْ أَنزَلْنَا إِلَيْكُمْ آيَاتٍ مُّبَيِّنَاتٍ وَمَثَلًا مِّنَ الَّذِينَ خَلَوْا مِن قَبْلِكُمْ‏}‏ ‏[‏النور‏:‏34‏]‏، وهو ما ذكره من أحوال الأمم الماضية، التي يعتبر بها ويقاس عليها أحوال الأمم المستقبلة، كما قال‏:‏‏{‏لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِّأُوْلِي الأَلْبَابِ‏}‏‏[‏يوسف‏:‏111‏]‏، فمن كان من أهل الإيمان قيس بهم، وعلم أن اللّه يسعده في الدنيا والآخرة، ومن كان من أهل الكفر قيس بهم، وعلم أن اللّه يشقيه في الدنيا والآخرة، كما قال في حق هؤلاء‏:‏‏{‏أَكُفَّارُكُمْ خَيْرٌ مِّنْ أُوْلَئِكُمْ أَمْ لَكُم بَرَاءةٌ فِي الزُّبُرِ‏}‏‏[‏القمر‏:‏43‏]‏، وقد قال‏:‏‏{‏قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُواْ فِي الأَرْضِ فَانْظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذَّبِينَ‏}‏‏[‏آل عمران‏:‏137‏]‏، وقال في حق المؤمنين‏:‏‏{‏وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ‏}‏ ‏[‏النور‏:‏55‏]‏، وقال‏:‏‏{‏وَذَا النُّونِ إِذ ذَّهَبَ مُغَاضِبًا فَظَنَّ أَن لَّن نَّقْدِرَ عَلَيْهِ فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَن لَّا إِلَهَ إِلَّا أَنتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنَ الظَّالِمِينَ فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذَلِكَ نُنجِي الْمُؤْمِنِينَ‏}‏ ‏[‏الأنبياء‏:‏ 87، 88‏]‏، وقال في قصة أيوب‏:‏ ‏{‏رَحْمَةً مِّنْ عِندِنَا وَذِكْرَى لِلْعَابِدِينَ‏}‏ ‏[‏الأنبياء‏:‏84‏]‏، ‏{‏رَحْمَةً مِّنَّا وَذِكْرَى لِأُوْلِي الْأَلْبَابِ‏}‏ ‏[‏ص‏:‏43‏]‏، وقال‏:‏‏{‏أُوْلَـئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏90‏]‏، وقال‏:‏ ‏{‏أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُواْ الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُم مَّثَلُ الَّذِينَ خَلَوْاْ مِن قَبْلِكُم مَّسَّتْهُمُ الْبَأْسَاء وَالضَّرَّاء وَزُلْزِلُواْ حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللّهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللّهِ قَرِيبٌ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏214‏]‏، وقال‏:‏ ‏{‏وَكُـلاًّ نَّقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنبَاء الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ‏}‏ ‏[‏هود‏:‏120‏]‏‏.‏

فلفظ ‏[‏المثل‏]‏ يراد به النظير الذي يقاس عليه ويعتبر به، ويراد به مجموع القياس، قال سبحانه‏:‏‏{‏وَضَرَبَ لَنَا مَثَلًا وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ‏}‏ ‏[‏يس‏:‏78‏]‏، أي‏:‏ لا أحد يحييها وهي رميم‏.‏ فمثل الخالق بالمخلوق في هذا النفي، فجعل هذا مثل هذا، لا يقدر على إحيائها، سواء نظمه في قياس تمثيل أو قياس شمول، كما قد بسط الكلام على هذا في غير هذا الموضع، وبين أن معنى القياسين قياس الشمول وقياس التمثيل واحد ـ والمثل المضروب المذكور في القرآن ـ فإذا قلت‏:‏ النبيذ مُسْكِر، وكل مسكر حرام، وأقمت الدليل على المقدمة الكبرى بقوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏كل مسكر حرام‏)‏ فهو كقوله صلى الله عليه وسلم قياسًا على الخمر؛ لأن الخمر إنما حرمت لأجل الإسكار، وهو موجود في النبيذ‏.‏ فقوله‏:‏‏{‏ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ‏}‏ ‏[‏الحج‏:‏73‏]‏‏.‏ جعل ما هو من أصغر المخلوقات مثلاً ونظيرًا يعتبر به؛ فإذا كان أدْوَن خلق اللّه لا يقدرون على خلقه ولا منازعته فلا يقدرون على خَلْق ما سواه، فيعلم بها من عظمة الخالق وأن كل ما يعبدون من دون اللّه في السماء والأرض لا يقدرون على ما هو أصغر مخلوقاته‏.‏ وقد قيل‏:‏ إنهم جعلوا آلهتهم مثلاً للّه فاستمعوا لذكرها؛ وهذا لأنهم لم يفقهوا المثل الذي ضربه اللّه، جعلوا المشركين هم الذين ضربوا هذا المثل‏.‏

ومثل هذا في القرآن قد ضربه اللّه ليبين أنه لا يقاس المخلوق بالخالق، ويجعل له نِدّا ومِثْلا كقوله‏:‏‏{‏قُلْ مَن يَرْزُقُكُم مِّنَ السَّمَاء وَالأَرْضِ أَمَّن يَمْلِكُ السَّمْعَ والأَبْصَارَ وَمَن يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيَّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَن يُدَبِّرُ الأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللّهُ فَقُلْ أَفَلاَ تَتَّقُونَ فَذَلِكُمُ اللّهُ رَبُّكُمُ الْحَقُّ فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلاَّ الضَّلاَلُ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ كَذَلِكَ حَقَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ فَسَقُواْ أَنَّهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ قُلْ هَلْ مِن شُرَكَآئِكُم مَّن يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ قُلِ اللّهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ قُلْ هَلْ مِن شُرَكَآئِكُم مَّن يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ قُلِ اللّهُ يَهْدِي لِلْحَقِّ أَفَمَن يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَن يُتَّبَعَ أَمَّن لاَّ يَهِدِّيَ إِلاَّ أَن يُهْدَى فَمَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ وَمَا يَتَّبِعُ أَكْثَرُهُمْ إِلاَّ ظَنًّا إَنَّ الظَّنَّ لاَ يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا إِنَّ اللّهَ عَلَيمٌ بِمَا يَفْعَلُونَ‏}‏ ‏[‏يونس‏:‏31ـ 36‏]‏‏.‏

ولما قرر الوحدانية قرر النبوة كذلك، فقال‏:‏‏{‏وَمَا كَانَ هَـذَا الْقُرْآنُ أَن يُفْتَرَى مِن دُونِ اللّهِ وَلَـكِن تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ الْكِتَابِ لاَ رَيْبَ فِيهِ مِن رَّبِّ الْعَالَمِينَ أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُواْ بِسُورَةٍ مِّثْلِهِ وَادْعُواْ مَنِ اسْتَطَعْتُم مِّن دُونِ اللّهِ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ بَلْ كَذَّبُواْ بِمَا لَمْ يُحِيطُواْ بِعِلْمِهِ وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ‏}‏ ‏[‏ يونس‏:‏ 37ـ 39‏]‏، وهؤلاء مثلوا المخلوق بالخالق، وهذا من تكذيبهم إياه، ولم يكن المشركون يسوون بين آلهتهم وبين اللّه في كل شىء، بل كانوا يؤمنون بأن اللّه هو الخالق المالك لهم، وهم مخلوقون مملوكون له، ولكن كانوا يسوون بينه وبينها في المحبة والتعظيم، والدعاء والعبادة، والنذر لها ونحو ذلك مما يخص به الرب، فمن عدل باللّه غيره في شيء من خصائصهِ ـ سبحانه وتعالى ـ فهو مشرك، بخلاف من لا يعدل به ولكن يذنب، مع اعترافه بأن اللّه ربه وحده، وخضوعه له خوفًا من عقوبة الذنب، فهذا يفرق بينه وبين من لا يعترف بتحريم ذلك‏.‏

 

فَصْــــل

وهو ـ سبحانه وتعالى ـ كما يفرق بين الأمور المختلفة فإنه يجمع ويسوي بين الأمور المتماثلة، فيحكم في الشىء خلقًا وأمرًا بحكم مثله، لا يفرق بين متماثلين، ولا يسوي بين شيئين غير متماثلين، بل إن كانا مختلفين متضادين لم يسو بينهما‏.‏

ولفظ ‏[‏الاختلاف‏]‏ في القرآن يراد به التضاد والتعارض؛ لا يراد به مجرد عدم التماثل ـ كما هو اصطلاح كثير من النظار ـ ومنه قوله‏:‏ ‏{‏وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللّهِ لَوَجَدُواْ فِيهِ اخْتِلاَفًا كَثِيراً‏}‏‏[‏النساء‏:‏82‏]‏، وقوله‏:‏‏{‏إِنَّكُمْ لَفِي قَوْلٍ مُّخْتَلِفٍ يُؤْفَكُ عَنْهُ مَنْ أُفِكَ‏}‏ ‏[‏الذاريات‏:‏8، 9‏]‏، وقوله‏:‏‏{‏وَلَـكِنِ اخْتَلَفُواْ فَمِنْهُم مَّنْ آمَنَ وَمِنْهُم مَّن كَفَرَ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 253‏]‏‏.‏

وقد بين ـ سبحانه وتعالى ـ أن ‏[‏السنة‏]‏ لا تتبدل ولا تتحول في غيرموضع، و‏[‏السنة‏]‏ هي العادة التي تتضمن أن يفعل في الثاني مثل ما فعل بنظيره الأول؛ ولهذا أمر ـ سبحانه وتعالى ـ بالاعتبار، وقال‏:‏‏{‏لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِّأُوْلِي الأَلْبَابِ‏}‏ ‏[‏يوسف‏:‏111‏]‏‏.‏

والاعتبار أن يقرن الشىء بمثله فيعلم أن حكمه مثل حكمه، كما قال ابن عباس‏:‏ هلا اعتبرتم الأصابع بالأسنان ‏؟‏ فإذا قال‏:‏ ‏{‏فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَارِ‏}‏ ‏[‏ الحشر‏:‏ 2 ‏]‏، وقال‏:‏ ‏{‏لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِّأُوْلِي الأَلْبَابِ‏}‏ أفاد أن من عمل مثل أعمالهم جُوزِي مثل جزائهم؛ ليحذر أن يعمل مثل أعمال الكفار؛ وليرغب في أن يعمل مثل أعمال المؤمنين أتباع الأنبياء، قال تعالى‏:‏ ‏{‏قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُواْ فِي الأَرْضِ فَانْظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذَّبِينَ‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏137‏]‏، وقال تعالى‏:‏‏{‏وَإِن كَادُواْ لَيَسْتَفِزُّونَكَ مِنَ الأَرْضِ لِيُخْرِجوكَ مِنْهَا وَإِذًا لاَّ يَلْبَثُونَ خِلافَكَ إِلاَّ قَلِيلاً سُنَّةَ مَن قَدْ أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِن رُّسُلِنَا وَلاَ تَجِدُ لِسُنَّتِنَا تَحْوِيلاً‏}‏ ‏[‏ الإسراء‏:‏76، 77‏]‏،وقال تعالى‏:‏‏{‏لَئِن لَّمْ يَنتَهِ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ ثُمَّ لَا يُجَاوِرُونَكَ فِيهَا إِلَّا قَلِيلًا مَلْعُونِينَ أَيْنَمَا ثُقِفُوا أُخِذُوا وَقُتِّلُوا تَقْتِيلًا سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِن قَبْلُ وَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا‏}‏‏[‏الأحزاب‏:‏ 60ـ 62‏]‏‏.‏ وهذه الآية أنزلها اللّه قبل الأحزاب، وظهور الإسلام، وذَلَّ المنافقين فلم يستطيعوا أن يظهروا بعد هذا ما كانوا يظهرونه قبل ذلك، قبل بَدْر وبعدها، وقبل أُحُد وبعدها، فأخفوا النفاق وكتموه؛ فلهذا لم يقتلهم النبي صلى الله عليه وسلم‏.‏

وبهذا يجيب من لم يقتل الزنادقة، ويقول‏:‏ إذا أخفوا زندقتهم لم يمكن قتلهم، ولكن إذا أظهروها قتلوا بهذه الآية، بقوله‏:‏‏{‏مَلْعُونِينَ أَيْنَمَا ثُقِفُوا أُخِذُوا وَقُتِّلُوا تَقْتِيلًا سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِن قَبْلُ وَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا‏}‏ قال قتادة‏:‏ ذكر لنا أن المنافقين كانوا يظهرون ما في أنفسهم من النفاق؛ فأوعدهم الله بهذه الآية، فلما أوعدهم بهذه الآية أسروا ذلك وكتموه ‏{‏سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِن قَبْلُ‏}‏ يقول‏:‏ هكذا سنة الله فيهم إذا أظهروا النفاق‏.‏ قال مقاتل بن حَيَّان‏:‏ قوله‏:‏ ‏{‏سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِن قَبْلُ‏}‏ يعني‏:‏ كما قُتِل أهل بَدْر وأسِرُوا فذلك قوله‏:‏‏{‏سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِن قَبْلُ‏}‏‏.‏

قال السدي‏:‏ كان النفاق على ثلاثة أوجه‏:‏

نفاق مثل نفاق عبد اللّه بن أُبَيّ، وعبد اللّه بن نُفيل، ومالك بن داعس، فكان هؤلاء وجوهًا من وجوه الأنصار، فكانوا يستحيون أن يأتوا الزنا، يصونون بذلك أنفسهم، ‏{‏وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ‏}‏ ‏[‏الأحزاب‏:‏ 60‏]‏ قال‏:‏ الزناة‏.‏ إن وجدوه عملوا به، وإن لم يجدوه لم يتبعوه‏.‏

ونفاق يكابرون النساء مكابرة، وهم هؤلاء الذين يجلسون على الطريق، ثم قال‏:‏ ‏{‏مَلْعُونِينَ‏}‏ ثم فصلت الآية ‏{‏أَيْنَمَا ثُقِفُوا‏}‏ يعملون هذا العمل، مكابرة النساء‏.‏ قال السدى‏:‏ هذا حكم في القرآن ليس يعمل به، لو أن رجلاً أو أكثر من ذلك اقتصوا أثر امرأة فغلبوها على نفسها ففجروا بها كان الحكم فيهم غير الجلد والرجم؛ أن يؤخذوا فتضرب أعناقهم‏.‏ قال السدي‏:‏ قوله‏:‏ ‏{‏سُنَّةَ‏}‏ كذلك كان يفعل بمن مضى من الأمم‏.‏ قال‏:‏ فمن كابر امرأة على نفسها فقتل فليس على قاتله دية؛لأنه مكابر‏.‏

قلت‏:‏ هذا على وجهين‏:‏

أحدهما‏:‏ أن يقتل دفعًا لصَوْله عنها، مثل أن يقهرها، فهذا دخل في قوله‏:‏‏(‏من قتل دون حرمته فهو شهيد‏)‏، وهذه لها أن تدفعه بالقتل، لكن إذا طاوعت ففيه نزاع وتفصيل، وفيه قضيتان عن عمر وعلي معروفتان، وأما إذا فجر بها مستكرها ولم تجد من يعينها عليه فهؤلاء نوعان‏:‏ أحدهما‏:‏ أن يكون له شوكة كالمحاربين لأخذ المال، وهؤلاء محاربون للفاحشة فيقتلون‏.‏ قال السدي‏:‏ قد قاله غيره‏.‏ وذكر أبو اللوبي أن هذه جرت عنده ورأي أن هؤلاء أحق بأن يكونوا محاربين‏.‏

والثاني‏:‏ ألا يكونوا ذوي شوكة، بل يفعلون ذلك غيلة واحتيالا، حتى إذا صارت عندهم المرأة أكرهوها فهذا المحارب غيلة، كما قال السدي، يقتل أيضًا وإن كانوا جماعة في المِصْر، فهم كالمحاربين في المصر، وهذه المسائل لها مواضع أخر‏.‏

والمقصود أن اللّه أخبر أن سنته لن تُبَدّل ولن تتحول، وسنته عادته التي يسوى فيها بين الشىء وبين نظيره الماضي، وهذا يقتضي أنه ـ سبحانه ـ يحكم في الأمور المتماثلة بأحكام متماثلة؛ ولهذا قال‏:‏‏{‏ أَكُفَّارُكُمْ خَيْرٌ مِّنْ أُوْلَئِكُمْ‏}‏ ‏[‏القمر‏:‏43‏]‏،وقال‏:‏‏{‏احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْوَاجَهُمْ‏}‏ ‏[‏الصافات‏:‏22‏]‏، أي‏:‏ أشباههم ونظراءهم، وقال‏:‏ ‏{‏وَإِذَا النُّفُوسُ زُوِّجَتْ‏}‏ ‏[‏التكوير‏:‏ 7‏]‏‏.‏ قرن النظير بنظيره، وقال تعالى‏:‏‏{‏أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُواْ الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُم مَّثَلُ الَّذِينَ خَلَوْاْ مِن قَبْلِكُم‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏214‏]‏،وقال‏:‏ ‏{‏قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَاء مِنكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاء أَبَدًا‏}‏‏[‏الممتحنة‏:‏4‏]‏،وقال‏:‏‏{‏وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُم بِإِحْسَانٍ رَّضِيَ اللّهُ عَنْهُمْ وَرَضُواْ عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 100‏]‏‏.‏

فجعل التابعين لهم بإحسان مشاركين لهم فيما ذكر من الرضوان والجنة، وقد قال تعالى‏:‏‏{‏وَالَّذِينَ آمَنُواْ مِن بَعْدُ وَهَاجَرُواْ وَجَاهَدُواْ مَعَكُمْ فَأُوْلَـئِكَ مِنكُمْ‏}‏ ‏[‏الأنفال‏:‏75‏]‏، وقال تعالى‏:‏‏{‏وَالَّذِينَ جَاؤُوا مِن بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِّلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَؤُوفٌ رَّحِيم‏}‏ ‏[‏الحشر‏:‏10‏]‏، وقال تعالى‏:‏‏{‏وَآخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ‏}‏ ‏[‏الجمعة‏:‏3‏]‏‏.‏ فمن اتبع السابقين الأولين كان منهم، وهم خير الناس بعد الأنبياء، فإن أمة محمد خير أمة أخرجت للناس، وأولئك خير أمة محمد، كما ثبت في الصحاح من غير وجه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏(‏خير القرون القرن الذي بعثت فيهم، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم‏)‏‏.‏

ولهذا كان معرفة أقوالهم في العلم والدين وأعمالهم خيرًا وأنفع من معرفة أقوال المتأخرين وأعمالهم في جميع علوم الدين وأعماله، كالتفسير وأصول الدين، وفروعه، والزهد، والعبادة، والأخلاق، والجهاد، وغير ذلك؛ فإنهم أفضل ممن بعدهم كما دل عليه الكتاب والسنة، فالاقتداء بهم خير من الاقتداء بمن بعدهم، ومعرفة إجماعهم ونزاعهم في العلم والدين خير وأنفع من معرفة ما يذكر من إجماع غيرهم ونزاعهم‏.‏

وذلك أن إجماعهم لا يكون إلا معصومًا، وإذا تنازعوا فالحق لا يخرج عنهم، فيمكن طلب الحق في بعض أقاويلهم، ولا يحكم بخطأ قول من أقوالهم حتى يعرف دلالة الكتاب والسنة على خلافه، قال تعالى‏:‏‏{‏أَطِيعُواْ اللّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللّهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏59‏]‏‏.‏

وأما المتأخرون، الذين لم يتحروا متابعتهم وسلوك سبيلهم، ولا لهم خبرة بأقوالهم وأفعالهم، بل هم في كثير مما يتكلمون به في العلم ويعملون به، لا يعرفون طريق الصحابة والتابعين في ذلك، من أهل الكلام والرأي والزهد والتصوف، فهؤلاء تجد عمدتهم في كثير من الأمور المهمة في الدين إنما هو عما يظنونه من الإجماع، وهم لا يعرفون في ذلك أقوال السلف البتة، أو عرفوا بعضها ولم يعرفوا سائرها، فتارة يحلون الإجماع ولا يعلمون إلا قولهم وقول من ينازعهم من الطوائف المتأخرين؛ طائفة أو طائفتين أو ثلاث، وتارة عرفوا أقوال بعض السلف، والأول كثير في ‏[‏مسائل أصول الدين وفروعه‏]‏ كما تجد كتب أهل الكلام مشحونة بذلك، يحكون إجماعًا ونزاعًا، ولا يعرفون ما قال السلف في ذلك البتة، بل قد يكون قول السلف خارجًا عن أقوالهم، كما تجد ذلك في مسائل أقوال اللّه وأفعاله وصفاته، مثل مسألة القرآن والرؤية والقدر وغير ذلك‏.‏

وهم إذا ذكروا إجماع المسلمين لم يكن لهم علم بهذا الإجماع؛ فإنه لو أمكن العلم بإجماع المسلمين لم يكن هؤلاء من أهل العلم به؛ لعدم علمهم بأقوال السلف، فكيف إذا كان المسلمون يتعذر القطع بإجماعهم في مسائل النزاع بخلاف السلف، فإنه يمكن العلم بإجماعهم كثيرًا‏.‏

وإذا ذكروا نزاع المتأخرين لم يكن بمجرد ذلك أن يجعل هذه من مسائل الاجتهاد التي يكون كل قول من تلك الأقوال سائغًا لم يخالف إجماعًا؛ لأن كثيرًا من أصول المتأخرين محدث مبتدع في الإسلام، مسبوق بإجماع السلف على خلافه، والنزاع الحادث بعد إجماع السلف خطأ قطعًا، كخلاف الخوارج والرافضة والقدرية والمرجئة، ممن قد اشتهرت لهم أقوال خالفوا فيها النصوص المستفيضة، المعلومة وإجماع الصحابة‏.‏

بخلاف ما يعرف من نزاع السلف فإنه لا يمكن أن يقال‏:‏ إنه خلاف الإجماع وإنما يرد بالنص، وإذا قيل‏:‏ قد أجمع التابعون على أحد قوليهم فارتفع النزاع، فمثل هذا مبني على مقدمتين‏:‏

إحداهما‏:‏ العلم بأنه لم يبق في الأمة من يقول بقول الآخر وهذا متعذر‏.‏

الثانية‏:‏ أن مثل هذا هل يرفع النزاع‏.‏‏.‏‏.‏‏[‏بياض بالأصل‏]‏ مشهور، فنزاع السلف يمكن القول به إذا كان معه حجة؛ إذ‏.‏‏.‏‏.‏ ‏[‏بياض بالأصل‏]‏ على خلافه، ونزاع المتأخرين لا يمكن‏.‏‏.‏‏.‏ ‏[‏بياض بالأصل‏]‏ لأن كثيرًا منه قد تقدم الإجماع على خلافه، كما دلت النصوص على خلافه، ومخالفة إجماع السلف خطأ قطعًا‏.‏

وأيضًا، فلم يبق مسألة في الدين إلا وقد تكلم فيها السلف، فلا بد أن يكون لهم قول يخالف ذلك القول أو يوافقه، وقد بسطنا في غير هذا الموضع أن الصواب في أقوالهم أكثر وأحسن، وأن خطأهم أخف من خطأ المتأخرين، وأن المتأخرين أكثر خطأ وأفحش، وهذا في جميع علوم الدين؛ ولهذا أمثلة كثيرة يضيق هـذا الموضع عـن استقصائها،واللّه ـ سبحانه ـ أعلم‏.‏